الثلاثاء، 27 ديسمبر 2011

مْـسخـُوط الصّحـافـة؟!

                 كتَبَها  عبـد الـرّزّاق بوتْـمُـزّار

لاحتْ له الأضواء العزيزة، أخيرا. طوى الجريدة الباليّة ووضعها جانباً. كانت صفحاتُها قد اهترأت. تناوب عليها كل من يفُكّون الحرف في المقطورة، قبل أن تعود إليه.. لماذا لا نُمتّع أنفسَنا بامتياز شراء جريدة حتى عندما نكون على سفر؟ عبَرتْ فكرة مجنونة خياله، فانفرجت شفتاه عن ابتسامة عريضة. لقد شاخت هذه الجريدة المسكينة في ظرف ثلاث ساعات، هي كل ما استغرقتْه الرحلة.
ألقى نظرة سريعة على محفظته في الرفّ قبالته. الأضواء تقترب أكثر فأكثر ويزداد ضياؤها زخما وبهاء. بدت له مراكش، من بعيد، امرأة خارقة الجمال تتهيّأ لليلةِ حب طويلة بين أحضان حبيبها، العائد إلى دفء الأحضان بعد غيبة طويلة. ولأن اشتياقَها كبير ورغبتَها في الوصال جامحة، فقد أضاءت كلَّ الأنوار الممكنة من حولها، حتى لا تُهمل أي تفصيل في أجزاء جسدها الرائع، وهي تتزيّن. لم يكن اشتياقُه أقلَّ حرقة، لو تدري مراكش -المرأة!..
قام من مكانه واقترب من أحد أبواب القطار. أدار المزلاج نحو الأسفل وضغط بقوة. لفحت وجهَه موجةُ برد مسائيّ حارّ. أخيراً، رائحة البلاد. قال لنفسه، وهو يستنشق، بعمق، عـطر المدينة الحبيبة.
جرّ إليه الباب الزجاجي وأبقى على كوة صغيرة منه مفتوحة. كانت سرعة القطار تجعل البرد يرتدّ إلى الداخل قويا، خانقاً. أشعل سيجارة، وعيناه على مصابيح المدينة. خائنةٌ أنت وحبيبة، في آن، خاطبَ حاضرةَ ابنِِ تاشفينَ، وهو يتأمّل الأشجار وقد راحت تتراجع إلى الخلف، بسرعة، والوحش الحديدي، الهادر، يطوي الأمتار الأخيرة نحو آخر محطات الجنوب. داس عقب السيجارة. وعاد إلى المقطورة. سحب محفظة حاسوبه وانسحب. قذف القطار بحمولته الهائلة من البشر. ساروا، بالمئات، في اتجاه المحطّة الفاخرة.
مْــــرّاكشْ..الــبْــهْــجَــة















كان عبد اللطيف في انتظاره أمام بناية المسرح الملكيّ. تَبادلا تحية مقتضبة وارتمى خلفه فوق دراجته، الصّينية. دارت العجلتان تطويّان الشوارع الفسيحة. سحب نفَساً عميقاً. صارت هذه الدراجة تعرف الطريق لوحدها، قال عبد اللطيف، وهما يتبادلان ضحكة. عبَرت الناقلة شارع فرنسا، الإقامات الفخمة وفنادق الخمسة نجوم، حيث شرعت فضاءاتُ المدينة تنفتح على عوالم الليل، المحاطة بأسوار عاليّة.. بكاميرات المراقبة وبأعيُن حُرّاسٍ مفتُولي العضلات. الكل في خدمة ناس "الهايْ كْلاس"، الذين تفتح لهم المدينة العاهرة أحضانَها، ولعابُها يسيل لأوراق الأورو الخضراء.
عبَرا شارع محمد السادس، حيث الطبيعة في أبهى تجلّياتها. طريق ممتدّة إلى ما لا نهاية. تتهامس على جنباتها الأشجار، المُشذّبة، النّضِرة. مياه تتراقص تحت الأضواء في النّافورات والأحواض الاصطناعية، في منظر بديع ما عاد الطيّب يستمتع برؤيته مُذ غادر في اتجاه عاصمة الاقتصاد، سعياً وراء لقمة الخبز. لقمةٍ لم تستطع المدينة، المدّعيةُ، أن تُوفّرها له وللكثيرين من أبنائها، البرَرة، بما يكفي من كرامة وبقيةٍ من عزّةِ نفْس. تنكّرت لَهُم وله في عزّ احتياجهم إليها. رغم كل الفخامة والأريحية، التي تحاول أن تبدو عليها، هذه الحمراء، المعشوقة من أبنائها، فإنها تُصرّ على تعذيبهم، إنْ هم اختاروا مواصلة العيش بين أحضانها. آخرون قسَتْ عليهم إلى حدود نفْي طموحاتهم خارج أسوارها. كان الطيّب واحدا من هؤلاء، بعد طول عناد ومقاومة منه. الآن، صار لا يأتيها إلا في زيارات خاطفة ومتباعدة. بعد أربع وعشرين ساعة، عليه العودة من حيث أتى. شعُر بنفْسه، وهواء المساء يُداعبه، كأنه عصفور عاد إلى موطنه الأول. آهٍ، لو يتّسع ضغط الحياة لأكثرَ من أربع وعشرين ساعة!..
عرّجت الدرّاجة على مفترق الطرق قبالة حدائق أكدال، التاريخية. تأمّل الطيّب هذا التّغيُّر المهولَ الذي بلع أراضي الحاضرة. كم صرتِ هجينة بكل هذا العمران. بنايات عصرية وجدرانُ إسمنت في كل مكان. من يرفع أسوار كل هذه الأبنية، المُتكدّسة، المقيتة، ولمن؟ حتى طريق "أوريكة"، وكانت، حتى عهدٍ قريب، يحوطها الخلاء من الجانبين، أضحتْ شريطا لا متناهيّاً من الإسمنت. امتدّ البناء وأوغل لمسافات بعيدة. لفحتْ وجهَه نسمة باردة حين ولجت الدرّاجة ممر الحدائق الشهيرة وقطعت حبلَ تساؤلاته، الحارقة.
كان اللقاء حارّا وحميميّا مع وْلادْ الحومة.. صارت النّظرةُ غيرَ النظْرة. الكل يسألون عن الأحوال وعن ظروف العمل الجديد. آهٍ، ما أصعب العمل الجديد، لو تدْرُون! فرك عينيْه، وهو يجيب عن أسئلتهم، المتشابهة. ما مُهمّتك داخل الجريدة؟ كيف يتعامل معكم صاحب "شوف تشوف؟" هل تراه يوميا؟ وهل صحيحٌ أنكم تشتغلون حتى في أيام الآحاد؟!
في  الأحد وحتى السبت، يوم عطلتنا الأسبوعية، اليتيمِ، نشتغل، لو تدْرون. بالليل والنّهار، نشتغل، بدون توقف، فقط كي تصلكم جريدتُكم المفضَّلة في أبهى حُلّة ممكنة.
فجأةً، اختنق الطيّب بكل ذلك الكمّ من الأسئلة وبالدّخان، الذي ملأ الأجواء. شعُر بالضيق من كمّ القُبُلات التي يمطره بها كل من يتوقف في الفضاء الأخضر وينتبه إلى وجوده بين عصابة الأمس، العاطلة. ما إنْ يراه أحدهم حتى يتوقف ويتوجه إليه، مبتسما، مُعانِقاً، تسبقه أسئلته وتعليقاته. بقدْر ما شعر بالفخر الطيّبُ، لنجاحه في الحصول على عمل في أشهر جريدة في المملكة، شعر، أيضاً، بالبَرَم والضّجر من توالي الأسئلة والملاحظات وتشابُهها.
بنظرةٍ إلى عبد اللطيف وإيماءة خفيفة من رأسه، تحرّك الأخير في مجلسه، علامةَ رغبته في الانسحاب. ودّعهم الطّـيّب على أمل اللقاء في الغد، لو سمحتْ بذلك أجندة اليوم. عليه القيّامُ بزيارات كثيرة في ساعات يومه، القليلة. أنزله صديقه غيرَ بعيد عن مسكنه. ترجّل عن الدرّاجة وسار، ببطء، يزِن خطواته الأولى، ريثما يستعيد توازنه.. الألم الملعون يخترق ساقه العليلة. وخْزة عميقة اخترقت أسفل ركبته وامتدّت إلى كامل الجسد، العليل. هرب من النظرات الفضولية واقترب من خالد، بقـّال الحيّ. كان هناك صف من الزبائن. عدّل من وضع الحاسوب، الثقيل، فوق كتفيْه وألقى التّحية. فرِح خالد لرؤيته وراح يسأل نفس الأسئلة: أين اختفيت طيلة هذه المدة؟ هل صحيح أنك اشتغلتَ في الصحافة؟ وماذا عن أسرتك؟ هل أخذتَهُم إلى هناك أم ليس بعدُ؟ طلب حليبا ومشروبات وحفّاظتين للصغير، وهو يجيب عن أسئلة صديقه البقال بهزّات وإيماءات من رأسه. يريد أن يدّخر بعضا من طاقته. الاستنطاق التفصيلي ينتظرني على بُعد خطوات. قال بينه وبين نفسه، الطيّب، وهو يجمع بضائعه في حقيبة بلاستيكية ويبادل خالدا كلمات وتعليقات ضاحكة.
كان مهدي ما يزال يصارع مُداعبات الكرى أجفانَه، عندما ولج البيت. تسلَّل، في صمت، نحو غرفة النوم. اجتاز فناء الدار، دون أن يُثير وقعاً. استرق نظرة صوب المطبخ وهو يبتسم. كانت هناك، مُنشغلة في معالجة آخر تفاصيل العشاء. بحركة من يده نحو فمه، طلب من مهدي ألا يُحدث جلبة. تحرّكَ نحوه الصغير، في لهفة، وعانقه، وهو يتطلّع إلى حقيبته السوداء وإلى الكيس البلاستيكيّ في يده. سأل، غيرَ مُبال بتحذير الطيّب، والدِه:
وتُشرق برفقتك أنواري.. 
-بابا، جْبتي معاكْ الـ"بيسّي"؟ (1)
-إيّه، ها هو ومْعاه تُومْ وجيري اللي عْزازْ عليكْ..
خْدّْمو ليّا، بْغيتْ نتفرّج فْالرُّسومْ.
-واخّا، أوْلدي، ولكنْ بْلا صْداع..
لم يترك له مهدي الفرصة لكي يرتاح أو حتى يتخلصَ من ملابسه ومن حذائه، الذي يشعر أن قدميه قد انتفختا داخله، خصوصا اليسرى، بتورُّمها الأزليّ، اللّعين. أخرج الطيّب الـ"بّي سّي" وأشعله وانتظر. في حضرة الصغير، لا مجال أمام الطيّب حتى لأنْ يتحرك أو يُكلّم زوجته أو يُبادلها نظرة أو ابتسامة. ما إنْ يهُمَّ بذلك، حتى يمسك به مهدي من وجهه ويوجّه انتباهَه إلى أن عليه أن "يكتب"، في إشارة منه إلى أن عليه أن يُدخل رقم الـ"بي سي" السّريَّ أو أن يُشغّل أفلام الكرتون، المفضَّلة لديه، أو يستبدلها. أن يرفع الصوت أو يخفضه.. المهم، أنْ يُوليَّه كل اهتمامه. لبّى الطيّب رغبات ابنه، الصغيرة، قبل أن يجد الفرصة، أخيراً، لأنْ يختليّ بها، للحظات، في المطبخ، بعيدا عن أنظار الصغير. كان الشوقُ كبيرا والعواطف جيّاشة والقلب بالأشواق عامراً. وضع يده فوق بطنها، يستطلع أحوال الصّغيريْن. أشياءُ كثيرة يريد أن يقولها لها. أشياء كثيرة تريد أن تقولها له. لكنّ الأهمَّ كان حديث المشاعر، حديث الجسديْن.
سمعا خطوات مهدي، وهو قادمٌ نحوهما.
-بابا، أجي خْدّمو ليّا.. راه وْقف!
-واخّا أوْلدي، هانِي جايْ.
كان الصغير قد أحكم قبضته على يده، وهو يحاول سحْبَه في اتجاه الغرفة. تبادلا ابتسامة متواطئة. آه، أيها الصغير، لو تدري أن هناك ما هو أهمُّ، بعد كل هذا الغيّاب، من رسومك المفضَّلة..
عاد إليها، وهي تُهيّئ طعام العشاء، بعد أن لبّى طلب الصغير وتركه في الغرفة المجاورة، متفاعلاً مع شخوص رسومه المتحركة. تأمّل بطنها، المُتكوّر، ودسّ وجهه في شعرها، يبلو بين خصلاته مشاعر الاشتياق. تَراقَص جسدُها، حنيناً، وذابت الكلمات في حرارة أسبوعيْن من البعاد.
على طاولة العشاء، طاجين مغربيّ بلحم الغنم والزّبيبْ و"خْبز الفْرّانْ". كانت شهية الطيّب مفتوحة وسْعَ كل الأيام التي أمضاها هناك، في عاصمة الاقتصاد، يقتات على أكلات الشارع، التي لا تُشبِع أبداً. مهدي، كعادته، يرفض أن يتناول لقمة واحدة بعيدا عن رسومه. اضطر الطيب لأنْ يُوجِد مكاناً للجهاز فوق مائدة الأكل. نزولاً عند رغبة هذا العزيز، هو على استعداد لأنْ يفعل أي شيء. سألها عن الحمل وكيفية تدبيرها أمورَها في غيابه. عن أبيها وزوجته. عن كل الأحباب. أجابتْه باقتضاب.
كان الحمل في أيامه الأخيرة. قالت إن الطبيبة أخبرتْها أن جنس التوأم الأول ذكر، بينما لم تستطع تحديدَ جنس الآخر. يتخذ في البطن وضعاً لا يسمح بذلك. لم تفهم الطبيبة ولم تفهم هي. ولا الطيّب فهم شيئا ممّا حكتْ. لم يُرِد أن يُلحّ في الاستفسار. لم يكن يريد أن يُنهكها أكثرَ. يكفي المسكينةَ ما هيّ فيه.
وهو يندسّ إلى الفراش إلى جانبها، بعد ساعات، نسيّ، ما هيّ فيه. المسكينة. لفّها بذراعيه وجرّها إلى أحضانه، العطشى. انطفأت أنوار الغرفة.
الثالثة وخمسٌ وأربعون دقيقة صباحا. تملْملَ الطيّب في فراشه ومدّ يده إلى الهاتف يُخرِس صوته، المزعج. لم تتركه يعود إلى النوم. نبّهتْه إلى أن عليه أن يقوم. حان وقت بداية الرحلة الطويلة. لا مجال لأنْ يضيع لحظة واحدة. قام، مكرهاً، يُغيّر ملابسه وبقايا النوم تُعيق الحركات. ألقى نظرة على الصغير، وهو يخنق تنهيدة في أعماقه. تأبّط حقيبته وغادر الغرفة، وفي أعماقه استنكارات واستفسارات مؤجَّلة. عند الباب، وداع على أمل اللقاء، بعد أسبوع، أسبوعيْن، وربما، أكثر. مَن يدري. أحكم إغلاق الباب وانتظر إلى أن سمع صوت "الزّكْروم" (2) من الداخل..
ها قد طرد الطيّبَ بيتُه ومستقر آماله والعائلة. شعر أنه يغلق الباب على كيانه وهو يسير في الزقاق، الضيّق، الصّامت. هدوء تامّ. لا يخدش السّكونَ إلا وقعُ خطواته على أرضية الدرب. خرج إلى شارع حمان الفطواكي. حانت منه التفاتة نحو "بّا مبارك"، الغارق، كما عادته في سباته العميق. من يعُسّ على الآخر، العسّاس على الحومة أم جدران الأخيرة على العْسّاسْ. تساءل الطيب وهو يبتسم. لم يسبق له، أبدا، وهو يغادر البيت في مثل هذا الوقت، أن وجد "بّا مبارك" مستيقظاً.
كان خالد ما يزال في دكانه، الضَّيِّق، يُلبّي طلبات زبنائه من المدخنين، على الخصوص. حمد الطيب الله على أن الفصلَ صيفٌ، حيث يسهر الشارع حتى ساعات الصباح. ابتاع علبة سجائرَ وراح ينفث دخان سيجارة الصباح الأولى، وهو يخطو نحو نهاية الشارع. ابتاع قطعة حلوى ومشروبا واستقل أول سيارة أجرة نحو "باب دكالة". ومن هناك، سيارة أجرة صغيرة حتى محطة القطار.
دفع العشرة دراهمَ للسائق وهو يترحّم على والديْه. سار في اتجاه البناية الفاخرة وهو يمتّع ناظرَيْه بآخر مناظر المدينة الجميلة/ الغدّارة. دفع ثمن التذكرة، على مضض، وارتمى فوق كرسيّ خلف شباك التذاكر، ريثما يحضر المراقب ويُفتَح باب الولوج نحو الضفة الأخرى للمحطة، حيث ينتظر وحش الحديد ساعة انطلاقه نحو مُدُن الشَّمال..
                               ذات قهوةٌ في قطار.. الطريق إلى المساء
لماذا يُحكَم عليّ بكل هذا العذاب من أجل لقمة عيش؟ تساءل، للمرّة الألف. لِمَ لا توفّر لي هذه المدينة المُدّعيةُ فرصة عملٍ مناسِبة بدَل إجباري على خوض غمار هذه الرحلة السّيزيفيّة كل حين؟ كيف لا أستطيع، أنا المجاز منذ أزلٍ، أن أتدبّر سبُلَ عيش كريم قرب زوجتي وصغيري دون أن أعيش منشطراً إلى قسمين: جسد هنا وروح هناك؟!..
قطعتْ حبلَ تساؤلاته حركةٌ قريبة منه فتناول حقيبته وأخرج التذكرة وتقدّم نحو المَعْبر الزجاجيّ الأنيق، وهو ما يزال بين النوم واليقظة. كانت مقطورات القطار فارغة، موحشة. كان كل شخص أو شخصين يختاران إحداها ويواصلان نومهما فوق كراسيها. مفترَض أن كل مقطورة تسَع ثمانية ركاب، وليس لواحد أو اثنين يستوليّان عليها ويجعلان منها مرقدا يكملان فيه غفوتهما الصباحيّة. لكل مكان وزمانٍ قوانينُه الخاصة، خاطب الطيّبَ الطيّبُ. بحث عن مقطورة خالية. لمّا وجد إحداها، ارتمى فوق أريكتها، يتوسّد حقيبة حاسوبه. مارس "حقّه" في "قانون" القطار الصّباحيّ. حاول، بلا جدوى، أن يغُطّ في النوم. يعرف، جيدا، أنه لا يستطيع ذلك. تحرّك القطار في موعده المحدَّد. ضبط ساعة هاتفه على الثامنة صباحا. بعد ساعة، سيتوقف في محطة بنجرير. ساعةً أخرى، بعد ذلك، سيكون قد وصل إلى سطات. ثم في حدود الثامنة، ستدخل الناقلةُ -الوحشُ المدينةَ -الوحش..
لم يستطع المكوث في وضعه، ممدَّداً على سرير المقطورة إلا لحظات. اعتدل في جلسته الصباحية والْتَهم ما كان معه من بغرير (3) كانت قد أعدّتْه له رفيقة دربه في الليلة السابقة وسخّنتْه دقائقَ قبل مغادرته المنزل. أتبع ذلك بابتلاع قطعة الحلوى وعبّ العصير. انتعل حذاءه وغادر المقطورة. تطلّع الطيّب عبر النافذة الزجاجية، وهو ينفث دخان سيجارة. كانت تباشير الصباح تلوح في الأفق، ملفوفةً في سكون جميل لا يكسره إلا صوت الآلة، الهادرة.
أخيرا، محطة بنجرير. ماذا أفعل بالساعتين المتبقيتين؟ تساءل الطيّب بينه وبين نفسه، وهو يخطو نحو صالونه في القطار، النّاعس. أشعل حاسوبه وحاول تجْزيّة الوقت بالبحث عن بعض المواقع. المناظر تبدو، من وراء الزجاج، بديعة، تتحدى أمهرَ الرسامين أن يأتوُا ولو لوحة مستنسَخة من جمالها، الربّاني، المستعلي عن أبدَع ما قد يؤتي بشر. تصفّح بعض عناوين الصحافة الإلكترونية، وهو يشُدّ رأسه لِهول مظاهر الفوضى والارتجال والتسيُّب، التي تطبع عالم "صحافة الغد"..
مسكينٌ هذا الغدُ، إن كانت هذه صحافتَه الموعودة، همس الطّيب للطيّب، وهو ينتقل من موقع إلى آخر. مقالات عجيبة غريبة تُقترَف هنا وهناك في مواقعَ تتناسل، كالفطر، في عالم الافتراض، مُذيَّلة بسيول من التعليقات البذيئة والجاهلة، في أغلبها، دون حسيب ولا رقيب..
انتبه على إيقاع إشارة ضوئية يُرسلها الحاسوب تُفيد أن بطاريته قد استُنزِفت. إحدى أكبر مساوئ التكنولوجيا الحديثة مشكلةُ البطارية. أخرس جهازه وأحكم إغلاق المحفظة عليه وأعاده إلى مكانه. سيجارة أخرى، والوحشُ الحديديّ يواصل هديره صُعُدا نحو حواضر المركز..
هجمتْ رائحة كريهة على أنفه فأيقن أنها "تباشير" برشيد (4).. هكذا تستقبل بعض مدن المملكة زوارها بكريهِ الروائح. سيجارة كفيلة بأن تُنسيَّ الطيّبَ هذا الاستقبال "الحارّ" من مدينة -ملحقة. مجاري الصرف النّتِنة، بمياهها الضحلة السوداء على جنبات مَعْبَر القطار، تُفسِّر نوع الروائح. فلاحة "مزدهرة" في حواشي مدينة كُتِب لها أن تتعطّر بروائح الجثث المُتعفّنة كلَّ صباح. أين تُوزَّع هذه الخضر التي ترتوي من مياه آسنة قاتلة؟ لا شك أن عاصمة الاقتصاد تحظى بِحصّتها كاملة.. وفي اتجاه عاصمة الاقتصاد كان الطّيب سائراً..
بين يقظةٍ ومنام، كان الجسدُ يتهادى بين أروقة القطار في انتظار المحطّة المنشودة. أخشى ما يخشاه أن يحتال عليه الجسد المُنهَك ويغلب عليه النّعاس لحظات قبل توقفه في المسافرين (5). أشعل سيجارة وتَطلّعَ إلى المباني العشوائية على حواف المدينة الأخطبوطية المخيفة. محطة الكليات (6). لا توقُّف. النّسيم؟ (7)، ثم الوازيسْ (8). كانت أشعة الشمس قد استحكمتْ بصفحة السّماء وطردت إبداعات الغُيوم في سماء الفضاء الممتدّ. وأخيرا، كازا فوايّاجورْ (9). أدار مزلاج الباب وألقى نظرة نحو المحطة. استقبله بردُ المدينة، الممزوج برائحة الرّطوبة والأسماك. عذّل هندامه استعداداً للنزول نحو "تَمّارة" (10).
تراءت له، وهو يخطو نحو مدخل المحطة، تفاصيلُ يومه الأول، البعيدةُ في هذه المدينة، عندما جاءها، قبل أشهر، من أجل اختبار التوظيف..
كان هناك. في الموعد. اختار صعود الأدراج بدل المصعد. وصل، أخيراً، إلى الطابق السابع. استُقبِل بابتسامة وترحيب، مختومَيْن برجاء "الانتظار قليلا". المدير مشغول حاليا. انتظر على الباب، كأيّ مُجاز لا يملك كثيرَ خيارات. جال بناظريه في المكان، الضيّق. لم تستقرَّ عيناه على شيء محدد. لماذا مدراؤنا ومسؤولونا مشغولون، دوماً؟! ولو حضرتَ إلى مكاتبهم وفق موعد سابق، هُمُ مُنشغلون عنك! متى، تراهُم، يتفرّغون، هؤلاء المنشغلون عنّا دوماً، ويُعْطُونا ما نستحقّ؟ قاطع أفكارَ الطيّب صوتٌ.
طلبتْ منه الكاتبة التفضُّل. استقبله المديرُ بابتسامة وتقدير لحضوره في الوقت. كانت تلك إشارة جيّدة بالنسبة إلى الطيّب. تمحور الحديث المقتضب حول الشواهد والخِبْرات.
تكلّم عن تجاربه السابقة وارتباطه بصناعة الثقافة في المملكة، غير القارئة. تجاربُ مُحبِطة، في الحقيقة. وكما عادته، كان الطيب مُسلّحاً بأرشيفه في محفظته. أفرد فوق مكتب المدير ملفّا واختار منه بعض الوثائق. مرّرها للمدير، وهو يُكلّمه عنها.
اقتنع المدير بسرعة، على ما بدا للطيّب، أم تراه لم يكنْ لديه خيار؟.. تناول الهاتف وتبادل بعض الكلمات مع أحدهم. دعاه إلى مرافقته. هبطا بعض الأدراج ودلف المدير إلى عمارة في الطابق السادس. قام الحارس وحاول فتح الباب بدل المدير. قدّمه لمسؤوله المباشر، سكرتير التحرير. يعرفه الطيّب من خلال كتاباته. لم تكن بينهما معرفة شخصية. تبادلا كلاماً مقتضبا حول مدى معرفة الطيّب بمهمته الجديدة. ثم ودّعاه. طلب منه المدير أن يحضر ليبدأ عمله يوم الأحد الموالي صباحاً.
سافر الطيّب عائداً إلى مراكش. أمضى ما تبقى من اليوم في ترتيب أموره وفي الاستعداد لرحلة جديدة في حياته العملية. نام متأخرا. ظلّتْ تُلاحقه بأسئلتها وملاحظاتها إلى وقت متأخر من الليل، وهما يسترجعان لحظاتٍ ومواقفَ من حياتهما السابقة. صارتْ لهُما حياة سابقة بعد التحاق الطّيب بالعمل الجديد. لم تعد تفصلهما عن حياة جديدة إلا ساعات. سيتغير كل شيء. سيعيشان مُنفصلَيْن، كل في مكان، بعد أن ظلا متلازميْن ست سنوات، بحُلو اللّحظاتِ والمُرّ.
في اليوم الوقت المُحدَّد، كان الطيّب في مكتبه الجديد في إطار مدة تجريبية، على أساس أن يتمَّ تشغيله في ما بعدُ، إنْ هو أقنع في عمله. رافقه سكرتير التحرير إلى قسم معزول في نهاية قاعة تضُمّ صحافيين. كانوا عشرة أو يزيد. صافح زميليْ التصحيح وجلس إلى مكتب كبير مشترَك. بعد لحظة، عاد إليه السكرتير بمقالة مطبوعة على ورق وطلب منه تصحيحها وإعادتَها إليه. أهذا كل شيء؟ مقال مطبوع وقلمٌ أحمر؟!..

    "رفيق" مْسخوطْ الصّحافة..
أعاد إليه الورقة، لحظاتٍ بعد ذلك، وقد زوّقها اللون الأحمر.. انسحب بِخِفّة، مبتسماً. عشرُ سنوات بعد ابتعاده عن هذه الحرفة الشّقيّة وما يزال القلم الأحمر يشارك في صناعة الثقافة! تَوقَّع الطيب أصعبَ من هذا. وما يَضُرُّني في ذلك؟ تساءل، وهو يجلس إلى مكتبه. تسلّل إليه بعض الضّجر، قبل أن تصلَه المقالة التالية، فالثالثة، الخامسة، فالعاشرة.. يبدو أن السكرتير اقتنع، سريعاً بعطائه، أم هو فقط ضغطُ العمل وكثرة المقالات الموجَّهة للتصحيح ما دفع السكرتير إلى أن يُشركَه في العمل، ريثما يجدون من هو أفضل منه؟
بعد حوالي الساعة، خفّت الحركة، شيئاً فشيئاً، في المكان. أدرك الطيّب أن "الخْبزة مْشاتْ للفْرّانْ"..(11)
توقّف الطاكسي. مارْشي سانطرالْ (12). لا يعني المكان شيئا في ذاكرة الطيّب بعدُ. دفع الدراهم الأربعة وعدّل من وضع الجهاز فوق ظهره. المكان غيرُ بعيد. 30، شارع الجيش الملكي. الطابق السابع. غادر المصعد. كان المكان هادئا. حتى الباب ما يزال مغلقا. استقبله مصطفى، ضاحكا، بلازمته:
-عْلى السّلامة.. الناس ديالْ مْرّاكشْ جاوْ ودْيَاوْلْ كازا مازالْ!.. (13)
تخلّص من الحقيبة ودلَف إلى المرحاض. غسل وجهه بماء بارد. كانت العيْنان مكدودتيْن والجسد مُنهكاً. لكنّ الخبز مُرّ. أشعل الجهاز وحمّل الملفات والصفحات التي يحتاجها في عمله. ما عاد القلمُ الأحمرُ يصلُح إلا لتصحيحات جانبيّة، في مرحلة لاحقة من عملية إعداد صفحات الجريدة. تغيّرت الأمور عمّا كانت عليه في السابق. صار أمام كل مُصحّح جهاز موصول بشبكة داخلية. شرع في عمله مبتسما، وهو يسترجع بقية أول يوم حلّ فيه بالمؤسسة..
كان، يومَها، يتصور العمل على هذا الشكل: سيُجلسونَه أمام الجهاز وينتظرون أن يشرع في التحميل والتّصحيح. مُنِح قلماً أحْمرَ وورقة مطبوعة. خشيّ أن يُواجِه صعوباتٍ تقنيّة وهُم يطلبون منه، مثلاً، أن يفتح ملفّاً ويُصحّحَه ثم يسجله في ملف آخَر ضمن شبكة الجريدة الداخلية وهكذا تعقيداتٍ وأموراً تقنية. حمد الله على أن الأمور لم تكنْ بكل تلك الصعوبة التي توقّع. شرَع في عمله، مبتسماً، الجديد وإلى جواره وانكبّ على تصحيح هفوات الصحافيّين زميلان جديدان من مْساخيط الصّحافة..




















يُـتْــبَــع